Ads 468x60px

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2012/08/31

2012/08/12

اتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

السبت، 26 يوليو 2014

داء الكلبية

كشفت رداتُ أفعالِ قطاع من العرب حيال الأحداث الجسام في مصر وغزة عن بروز نمط من التفكير ينبئ عن شر مستطير تسلل إلى ثقافة العرب بعد عقود من الاستبداد العضوض.
إذْ صار من الدارج الحديث عن أبناء حماس -أثناء التحامهم بالصهاينة- “أنهم يفعلون ذلك لمكاسب سياسية فقط” بدل تمجيد مقاومي الاحتلال. وأن قادة الإخوان المصريين الذين يدفعون ضريبة الدم من دمائهم ودماء أبنائهم لتتحرر أمتُهم، يفعلون ذلك طلبا للمال والسلطة. وهذا تمظهر  لداء فكري يعرف ب”الكلْبية”  يحسن بنا التوقف للحديث عنه قليلا.
توجد في اللغات المنبثقة من اللاتينية كلمة “سينيسيزم” ويترجمها العرب بـ”الكلبية”. والكلبية التي أريد الحديث عنها ليست المذهب الفلسفي الذي ظهر في اليونان قديما،  بل تلك الكلبية التي اشتهرت في أروبا خلال القرن التاسع عشر.
ما ذا تعني؟
الكلبية حالة ذهنية تسيء الظن بالبشر وبدوافعهم ولا تصدق وجودَ إنسان صادق أو قلب يتحرك للخير. فلا يؤمن صاحبها بأي مبدأ ولا يصدق أن أي إنسان يؤمن بأي مبدأ نظرا لخراب ضميره هو. فالكلبيُّ “يرى الناس ماديين منافقين استغلاليين؛ وإذا زعموا أنهم يقومون بعمل ما بدافع الحب أو الكرم أو الوطنية أو الورع فهم يكذبون”. (للتفصل انظر: دزموند وليام “سينيكس” 2008، باللغة الإنكليزية). فإذا رأى أمّاً مثلا تقفز من مكان عال لإنقاذ ابنها المعاق، لا يتحرك ضميره الخرِب، بل يقول في نفسه إنها لا تفعل ذلك رحمةً بابنها وإنما لأنها تريده أن يكبر ليعتنبي بها. وإذا رأى رجلا يقدم رقبته للسياف باسمَ الثغر دفاعاً عن قيمةٍ من القيم، قالت له نفسه  الدنئية: “إنه يفعل هذا ليسكب مالا أو صيتاً”. ولعل من أطرف العبارات الواصفة لهذه الحالة قول جورج برنارد شو: “”إن الكلبيَ شخصٌ يحسبُ الناسَ قذِرين بدرجة قذارته هو؛ فيمقتَهم لذلك”.
والكلبية داء مجافٍ لروح المسلم الوثابة المتعلقة بالخير. فالمسلم لا يسيء الظن بالناس فبعض الظن إثم، إلا إذا قامت الشواهد. لذلك عاب المنافقون النبي صل الله عليه وسلم لأنه كان يحسن الظن بالناس. وقد ألمح القرآن إلى ذلك بقوله: “ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذُنٌ”. أي أن النبي كان يستمع ملحدثه إليه ويصدقه، وهي خاصية تلمح دراسات الشخصيات القيادية إلى أنها من السمات المشتركة بين القادة العظام. فهم يصدقون الناس ويحسنون بهم الظن لصدقهم هم وجنوح أحلامهم وإيمانهم بخيرية الناس وقدرتهم على القيام بأعمال عظيمة.
وقد ألمح المتنبي إلى داء الكلبية  في بيته السائر:
إذا ساء فعلُ المر ساءتْ ظنونُه * وصدّق ما يعتاده من توهمِ!
إن الكلبي محكوم في نظرته للناس بنظرته لضميره الخرب. إنه ينظر إلى “ضميره” الذي لا يبالي بشيء ولا يؤمن بشيء ولا يفعل أي فعل إلا لنفع ذاتي ولو على حساب كل الدنيا، فإذا الْتفتَ رأى شخصا يتقدم الصفوف متحدثا عن الخير والمروءة والتضحية فلا يستسيغ حديثه لصغر أحلامه وحقارة نفسه التي بين جنبيه وبعدها عن ارتياد تلك الربوع الأخلاقية.
ولعل عبد الرحمن الكواكبي قد ألمح في كتابه “طبائع الاستبداد” إلى شيء من هذا حين قال: “أجمع الأخلاقيون على أنَّ المتلبِّس بشائبةٍ من أصول القبائح الخُلقية لا يمكنه أن يقطع بسلامة غيره منها”.
ثم يفسر لنا الكواكبي حالة نعايشها اليوم. فهؤلاء الكلبيون الذين لا يصدقون أن أحدا من أنصار الحرية في العالم العربي يفعل فعلا عن حسن نية تراهم يؤمنون بصدق الآخر –الأوروبي أساسا- إذا تحدث عن العدل والحرية. كيف يستقيم ذلك؟
يواصل الكواكبي قائلا:
“فالمرائي -مثلاً- ليس من شأنه أن يظنَّ البراءة في غيره من شائبة الرياء، إلاّ إذا بَعُدَ تشابه النشأة بينهما بُعداً كبيراً، كأن يكون بينهما مغايرة في الجنس أو الدّين أو تفاوت مهمٌّ في المنزلة كصعلوك وأمير كبير. ومثال ذلك الشرقيّ الخائن، يأمن الإفرنجي في معاملته، ويثق بوزنه وحسبانه، ولا يأمن ويثق بابن جلدته. وكذلك الإفرنجي الخائن قد يأمن الشرقي، ولا يأمن مطلقاً ابن جنسه. وهذا الحكم صادق على عكس القضية أيضاً؛ أي أنَّ الأمين يظنُّ الناس أمناء خصوصاً أشباهه في النشأة، وهذا معنى “الكريم يُخدَع”، وكم يذهل الأمين في نفسه عن اتِّباع حكمة الحزم في إساءة الظنِّ في مواقعه اللازمة”.
إن الكلبيين الذين انبروا لهجاء أبناء المقاومة وهم ملتحمون بصفوف العدو، وانبروا لتبرير أعمال السفاح السيسي ضد قادة الإخوان وهم يلعقون جراحهم تقدمين الصفوف، قومٌ مرضى يحتاجون إلى مصحات نفسية لعلاجهم من داء الكلبية أكثر من حاجتهم إلى حجج عقلية لقراع تعرجات خواطرهم.
إن من يُنصت للكلبيين ستتوقف حياته. فلن يكون في حياته حب ولا تضحية ولا كرم ولا إيثار ولا شجاعة. سيتحول إلى حيوان بارد جارح. متى يفهم الكلبي أن سرائر الآخرين ليست  شائهةً كسريرته، وأنفسَهم الكريمة المتبرمةَ بالظلم والمستعدة للموت من أجل القضاء عليه ليست كنفسه التي لا تتردد في قتل نصف البشر كي تنال حظا تافها؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق